وقد ذكر المصنف حديث ابن عمرو الذي ذكره شيخ الإسلام بلفظ مقارب فقال: "ومنه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الملائكة قالت: يا ربنا! أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان}" أخرجه الطبراني ولم يذكر فيه لفظ: (وعزتي) وقد ذكرها ابن كثير في تفسيره .
والمعنى أن الملائكة تطلب من الله أن يجعل طبائعهم كالبشر ليكون لهم مثلهم من النعيم في الآخرة.
قال: "وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل في كتاب السنة وذكره ابن كثير رحمه الله في التفسير" ... وفيه : {وينامون ويستريحون، قال الله تعالى: لا. فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا}".
يقول المصنف عن حديثي عبد الله بن عمرو : "والشأن في ثبوتهما، فإن في سندهما مقالاً وفي متنهما شيئاً" ولكن شيخ الإسلام يصحح سند الحديث كما في بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة وأهل الإلحاد (ص:224)، تحقيق الدكتور موسى الدويش قال: "وثبت بالإسناد الذي على شرط الصحيح عن عبد الله بن عمرو أن الملائكة قالت: {يا ربنا! قد جعلت لبني آدم ...} الحديث فجعل إسناده على شرط الصحيح، وفي تحقيق الأرنؤوط للكتاب (ص:305) رقم (352) قال: "ضعيف كما أشار إليه المصنف، وأما تعقب الشيخ أحمد شاكر عليه بقوله: هكذا أعل الشارح الحديث إسناداً ومتناً وما أصاب في ذلك السداد؛ إذ قصَّر في تخريجه. أما رواية الطبراني فإنها ضعيفة حقاً بل غاية في الضعف، فقد نقلها ابن كثير في التفسير (5/206) بإسنادها من المعجم الكبير، ونقلها الهيثمي في مجمع الزوائد (1/82) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، وهو كذاب متروك. وفي إسناد الأوسط طلحة بن زيد، وهو كذاب أيضاً، فهذان إسنادان لا تعبأ بهما. قلت" وهذا الذي ذكره الأرنؤوط هنا مأخوذ من كلام الشيخ الألباني "ولكن الحديث رواه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على المريسي (ص:34) بإسناد صحيح مطولاً: عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذا الإسناد لا مغمز فيه، وقد أشار إليه الحافظ ابن كثير في التاريخ (1/55) مختصراً، من رواية عثمان بن سعيد، وأشار إلى صحته.
وأما رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل، فإنها من زياداته في كتاب السنة الذي رواه عن أبيه (ص:148 من الطبعة السلفية بـمكة فقال عبد الله : حدثني الهيثم بن خارجة، حدثنا عثمان بن علاق، وهو عثمان بن حصن بن علاق " وكتب في المطبوعة: محصن! خطأ. سمعت عروة بن رويم يقول: أخبرني الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ... فهذا إسناد ظاهره الصحة أيضاً، وإن لم أستطع الجزم بذلك؛ لأن عروة بن رويم لم يصرح فيه بأن الأنصاري الذي حدثه به صحابي، فجهالة الصحابي لا تضر، وهو يروي عن أنس بن مالك الأنصاري، فإن يكنه يكن الإسناد صحيحاً. وهذا محتمل جداً، وإن كنت لا أقطع به.. فإن الحديث ذكره ابن كثير في التفسير (5/206 - 207) نقلاً عن ابن عساكر، بإسناده إلى عثمان بن علاق : سمعت عروة بن رويم اللخمي، حدثني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ...، فهذا قد يرجح أن الأنصاري في رواية عبد الله بن أحمد هو: أنس بن مالك الأنصاري، ولكن إسناد ابن عساكر لم يتبين لي صحته من ضعفه.
وأياً ما كان فرواية عبد الله بن أحمد ورواية ابن عساكر تصلحان للاستشهاد، وتؤيدان صحة حديث عبد الله بن عمرو بإسناد الدارمي .
أما إعلاله من جهة المتن والمعنى فإنه غير جيد ولا مقبول؛ فإن الملائكة لم يعترضوا بهذا على ربهم، ولم يتبرموا بأحوالهم، وإنما سألوا ربهم، وهم عباد مطيعون، يرضون بما أمرهم الرب تبارك وتعالى إذا لم يستجب دعاءهم. ومثال ذلك الآيات في خلق آدم في أول سورة البقرة: ((أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))[البقرة:30] قلت: فلا ترى فيه ما ينهض على تصحيح الحديث، وإليك البيان بإيجاز".
الشيخ الألباني ينقل كلام الشيخ أحمد شاكر : " 1- أما قوله في طريق الدارمي : وهذا إسناد صحيح لا مغمز فيه، وقد أشار الحافظ ابن كثير إلى صحته. ففيه نظر لأمرين:
الأول: أننا لا نسلم بصحته مع وجود عبد الله بن صالح في طريقه، فإنه وإن كان البخاري أخرج له في صحيحه، فهو متكلم فيه من قبل حفظه، ولا يتسع هذا التعليق للإفاضة في ذكر أقوال الأئمة فيه، فحسبنا ما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته من التقريب، وهو إنما يذكر فيه عادة خلاصة أقوال الأئمة فيمن يترجمه، قال: صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة" قال -أي: أن شيخ الإسلام رحمه الله لما قال "بإسناد على شرط الصحيح" فذلك لأن عبد الله بن صالح من رواة الصحيح" فهو من رواة البخاري، لكن عبد الله بن صالح فيه كلام، لم يرو له البخاري على إطلاقه؛ لأنه ثَبْتٌ في كتابه لكن له أوهام.
"الثاني: أننا لا نسلم أيضاً أن ابن كثير أشار إلى صحة الحديث، وذلك أن غاية ما قال فيه: (وهو أصح) وهذا القول لا يفيد تصحيحاً مطلقاً للحديث، بل تصحيحاً نسبياً، وهو لا ينافي ضعفه كما في قول الترمذي في كثير من الأحاديث: وهو أصح شيء في الباب. فهذا لا يؤخذ منه صحة الحديث كما هو مقرر في (المصطلح) فكذلك قول الحافظ ابن كثير هنا، والله أعلم.
حديث عبد الله بن أحمد بسنده عن الأنصاري فلا شك في عدالة رواته باستثناء الأنصاري، وإنما البحث في كون الأنصاري إنما هو أنس بن مالك رضي الله عنه؛ لأنه إن كان هو فالحديث متصل الإسناد صحيح كما قال الشيخ أحمد شاكر، لكن استئناسه على ذلك برواية ابن عساكر التي نقلها عن تفسير ابن كثير، مما لا يصلح له؛ لأن ابن عساكر أورده (15/66/1-2) من طريق محمد بن أيوب بن الحسن الصيدلاني، وفي ترجمته ساق الحديث، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ودونه جماعة لم أجد من ترجمهم، فمثل هذا الإسناد الواهي لا يترجح كون الأنصاري هو أنس، على أنني قد وقفت له في ابن عساكر على طريق أخرى ضعيفة أيضاً سُمي فيها الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري، أخرجه (9/407/2) من طريق هشام بن عمار : نا عبد ربه بن صالح القرشي قال: سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر بن عبد الله الأنصاري مرفوعاً به. والقرشي هذا لم أجد له ترجمة، وهشام بن عمار وإن أخرج له البخاري فهو متكلم فيه أيضاً، قال الحافظ في التقريب : صدوق مقرئ، كبر فصار يتلقن. وجملة القول: أن حديث ابن رويم هذا ضعيف لجهالة الأنصاري واضطراب الروايتين الأخيرتين في تعيينه، فأولاهما تقول: إنه أنس، والأخرى تقول: إنه جابر، ولا يصلح عندي تقويته بحديث عبد الله بن صالح لاحتمال أنه مما أدخل عليه، قال ابن حبان : كان في نفسه صدوقاً، وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له، كان بينه وبينه عداوة، كان يضع الحديث على شيخ أبي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله، ويرميه في داره بين كتبـه، فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدث به!.
هذا ويحتمل أن يكون أصل الحديث من الإسرائيليات التي كان يحدث بها بعض الذين أسلموا من أهل الكتاب، ثم أخطأ بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما صنعوا بقصة هاروت وماروت. والله أعلم".اهـ
على كل حال: كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا السند على شرط الصحيح، وكون الصحابي أنساً أو جابراً ليس إشكالاً، فالمراد أن يكون صحابياً كائناً من كان، وإن كانت رواية ابن عساكر ضعيفة أو اختلف في تحديد الصحابي، فهذا أمر يسير، والحديث صحيح متصل إسناده كما ذكر الشيخ الألباني، فعلى ذلك يصح لنا أن نقول: إن هذا الحديث صحيح.